الأستاذ الدكتور ناصر نايف البزور
لا شكَّ أنَّ صلاةَ الجُمعة مناسبةٌ دينيةٌ وروحيةٌ وفكريةٌ واجتماعيةٌ ونفسيةٌ تعودُ بالنفع العظيم على المجتمعات الإسلامية إذا ما أحسنَ القائمون عليها تنظيم شعائرها وأساليب أدائها… ولذلك فقد أوجبها اللهُ في كتابهِ العزيز وأفردَ لها سورةً كاملةً تحملُ اسمها وتتكوّنُ من إحدى عشرة آية ابتدأها اللهُ بقوله: “يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ”؛ واختتمَها بقوله: “قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ” وما بينَ “يُسَبِّحُ لِلَّهِ” و”وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ” الكثير مِن الدروس والعِبَر التي تحتاج إلى عشرات المقالات…
ولا شكَّ أنّ هذا التخصيص لهذه الشعيرة في هذه السورةٍ المُتكاملةٍ الأركان يدلُّ على عِظَمِ مكانة هذه العبادة ودورها وخيريّتها كما جاءَ في قوله تعالى في الآية التاسعة منها: “أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
ولذلك يَحرصُ مئات ملايين المسلمين على اختلاف ثقافاتهم وأشكالهم وألوانهم وأعمارهم وأجناسهم على أداء هذه العبادة العظيمة في كافّة أصقاع الأرض في هذا اليوم الذي جعلهُ اللهُ عيداً… ومن هنا ينبغي أن يكون أداء خطيب الجمعة عظيماً ومتميّزاً بما يتناسب وعِظَمِ هذه المناسبة الجليلة…
ولذلك فأنا أحرصُ على اصطحاب أطفالي معي إلى صلاة الجمعة وأحرِص على أن أبحثَ عن الخطيب المتميّز في علمه وإتقانه ولغته وأسلوبه مهما كان المسجدُ بعيداً…. وكم أصابُ بالفرحة حينَ أجدُ خطيباً بارعاً؛ وكم أصابُ بالخيبة حين أجدُ خطيباً لا يُتقن أبسط فنون ومبادئ الخطابة والإلقاء…
وقد تحدّثت مراراً عن بعض هذه المبادئ وهذه الفنون الأساسية في مقالات سابقة… ولكنّني أخصّ هذه المقالة القصيرة للحديث عن فنِّ الإلقاء في خطبة الجمعة… فخطيب الجمعة يجب أن يَدرسَ وأن يتدرّبَ على أساليب الإلقاء باستخدام درجات وطبقات ومقامات الصوت والتنغيم المناسبة لكلِّ جُملة وكلِّ آية وكلِّ حديث في خطبته مع مراعاة لغة الجسد، والتواصل البصري، وتقاسيم الوجه، وحركة اليدين، والانفعالات المصاحبة لكلِّ عبارةٍ في خطبته لتكون تلك الخطبة مُؤثّرةً في نفوس وعقول الحاضرين بكافّة أطيافهم…
فهناك عبارات ومواقف تقتضي الغضب… وهناك عبارات ومواقف تقتضي الحُزن… وهناك عبارات ومواقف تقتضي التأمّل… وهناك عبارات ومواقف تقتضي البكاء… وهناك عبارات ومواقف تقتضي الابتسامة… وهناك عبارات ومواقف تقتضي الأمل… وهناك عبارات ومواقف تقتضي الضحك… وهناك عبارات ومواقف تقتضي الصدمة…
ولأنّ لكلِّ مقامٍ مقال، فينبغي على الخطيب مراعاة ذلك بشكلٍ دقيق لتأتي خطبته ثمارها… أمّا أن تكون الخطبة من أوّلها وحتّى آخرها بنفس الأسلوب ونفس الإيقاع ونفس التنغيم الصوتي فهذا يُفقدها جميع معانيها وجميع مقاصدها…
مناسبة حديثي هذا هو حضوري وأبنائي لإحدى الخطب قبلَ اسابيع في أحد المساجد… وقد أمضى الخطيبُ خطبته منذُ أوّلِ لحظة لدى صعوده المنبر وحتّى آخر لحظة قبلَ نزوله وهو يَصرخ بشدّة وكأنّه في معركة وصراع مع الحاضرين في المسجد… وكانت جميع حركات يديه وتعابير وجهه توحي بأنّه ناقمٌ على الحاضرين وكأنّه يوبّخهم ويُقرِّعهم بل ويشتمهم… حتّى أنّ ابني قُدامة قالَ لي مُستغرِباً بعدَ خروجنا من المسجد: “بابا، ليش الخطيب كان زعلان كثير وبيصيِّح على الناس”
لإخوتنا الخطباء نقول: هذه نصيحة لوجه الله… وهذا واجبنا بنُصحِكم… وهذا واجبكم أن تستمعوا للنصيحة… فالدين النصيحة، كما أخبرنا نبيُّنا، عليه أفضل الصلاة والسلام، وهو أفضلُ مُن اعتلى المنابِر فأنذَرَ وبشَّرَ؛ وأمرَ ونهى؛ وأبكى وأضحك؛ وخَوَّفَ وأمَّلَ؛ ورَغَبَ ورَهَّب… أحِبَّتنا، استمعوا لخُطَب الشيخ محمّد متولّي الشعراوي وخُطب الشيخ علي الطنطاوي وخُطب الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي وخُطب الشيخ نوح علي القضاة، عليهم جميعاً شآبيب الرحمات، لتتعلّموا أساليب الخطابة المؤثّرة… وستجدون فيها جميعَ مقامات وفنون الخطابة المنضبط والمُتنوِّعة والمُتوازنة: الهدوء في مواقف الهدوء؛ والخضوع في مواقف الخصوع؛ والتذلّل في مواقف التذلّل؛ والرجاء في مواقف الرجاء؛ والبكاء في مواقف البكاء؛ والترهيب في مواقف الترهيب؛ والترغيب في مواقف الترغيب… أمّا أن تكون الخطبة صُراخاً في صُراخ في صُراخ فهذا أمرٌ غريبٌ وعجيب… #للعقول_الراقية