الرئيسية / كتاب الموقع / نصف دينار في مسيرة عمر

نصف دينار في مسيرة عمر

 

د. عبدالله الزعبي.
حملق في كبد الشاشة الضخمة الممتدة في أفق القاعة على مدى ناظريه، كأنها السماء مسحت عتمتها وسقطت منها النجوم. أخذه بعيداً منظر الممثلين الرابضين على الستار الأبيض، إذ ترطن السنتهم الأعجمية بلغة يكاد لا يفهم منها سوى بضع كلمات، ما زال يتعلمها في الإبتدائية وعلى مشارف الإعدادية. غاص جسمه اليافع في المقعد الخشبي ذي المساند المتأهبة التي تتناثر صفوفاً على طول الصالة وعرضها، بينما عيناه النضرتان تتسابقان في معاينه الوجوه والمشاهد والحديث تارة وقراءة النص المترجم أخرى. توقدت أنفاسه وتحمست جوارحه على وقع التجربة والنافذة وأحلام النهار، تفتحت حواسه على عوالم خلف الزمن والشاشة، وأناس وراء الألسن ومدائن القضبان والبحار. أسرته تلك الرحلة الأولى في فضاء التضاهر وأجواء الأداء والتمثيل ومكثت في خاطره عبر السنين البعيدة المتواريه في ضباب العمر ومتاهات الحلم. تلك لوحة أتقن في خياله رسمها بألوان قزح وألحان آماله الوليدة مثلما ريشة فنان.
ذات ظهيرة برفقة أبيه الذي تعلق بأستار حبه وأهداب خلقه ومرحه، إذ يود أن يستنسخ منه نفسه، وعلى مائدة جوده وضيفه، طلب منه علبة سجائر فيلادلفيا، ثم ناوله قطعة نقد حمراء من فئة الخمس. لحظ البائع، وهو يعد ما تبقى من نقود، يسهو عن نصف دينار زائد التصق بأخيه، مثلما طفل يحن لصدر أمه أو طائر يلوذ بدفء عشه. عاد بالعلبة وما تبقى من نقود لأبيه واحتفظ بنصف دينار ابليس. جلس ينتظر والده بسيارته، تتنازعه نفحة المنى وزجرة الضمير، يمن النفس بوعد السينما في يوم الراحة، يهيم في أمنيات الشاشة والفيلم، في أوهام الصبا واليقظة، وفجأة تنتزعه قرصات الفطرة والصحوة، توقظه دعوة السماء ويدعوه نداء الأجداد، تشعل في أوصاله لهيب الذنب والخطيئة. ساعة بأكملها أنقضت كأنها العمر، تنقلت به ما بين قبضة الشك ولكمة الحيرة، بين إغواء ابليس وقوة الشكيمة. أحس بالنصر يغمر أركانه ويعمر وجدانه عندما أعاد نصف دينار العمر إلى أصحابه، إلى صدر أمه ودفء عشه، سرت في خياله أنسام القناعة وفاح رحيق القسط، امتلكه شعور الزهو والغلبة على ذاته ساعة حطم أصنام غروره وهزم ملذاته. حسم منذ تلك التجربة وأيام الإبتدائية معركة القناعة مع الدنيا والأنانية، نصف دينار واحد منذ نصف قرن كان كفيلاً بمؤنة الأيام وزاداً كافياً للمسير في دروب السنين. كان له جرعةً لداء الطمع ومصيبة الجشع، تزكية للنفس الأمارة…اللوامة، نصف دينار كان طهراً من حاجة العباد….وفساد المدينة.