عليه ضرْبا بالسياط، كانوا أربعة، وكان وحيداً في وجههم، كانوا يشتمونه، ويجلدونه بقسوة في كلّ ناحية من جسده، كان صامدا، صابرا، أبيّا، واقفا، يصدّ ما استطاع إليه سبيلا من ضرباتهم المؤذية الموجعة. لا ذنب له سوى أنّه كان واقفا على حاشية الشارع، لم يرتكب مخالفة، ولم يَمسّهم بسوء. لكنّهم أمعنوا إيذاءه، وأهدروا كرامته بطريقةٍ أخبرت بعجرفتهم وتخلّفهم. حتّى بدا أنّهم لا يُميّزون بين الإنسان والدابة. بل إنّ الدواب لا تُضرب في عصر حقوق الحيوان. ودلّ ذلك الفعل الوقح، الممجوج، على أنّ طيفا من العساكر يُكنّون حقدا دفينا، كبيرا، على المدنيين، ودلّ على أنّ الجيش يضيق برؤية مدنيّ واحد في الثنايا المؤدّية إلى الاعتصام، أو في الشوارع المحيطة بمقرّ القيادة العامّة. وبدا أنّ العساكر والأمنيين يُريدون امتلاك الشارع وإخلاءه من المدنيين، تحقيقا لوجودهم وبسْطا لنفوذهم، وتأكيدا لهيمنة القوّات المسلّحة على المجال العام.
المشهد الثاني، صورة امرأة خارجة من ميدان الاعتصام، اعترضها أحد رجال الأمن، وقد أعلى نبرة صوته، ورفع في وجهها سوطه، وسألها: “عسكرية أم مدنية؟” (يقصد هوية الدولة المنشودة)، فردّت فزِعَة، مذعورة: “عسكرية.. عسكرية”. وفي ذلك دلالة على أنّ الرأي السائد لدى عموم رجال الأمن هو ضرورة تسويد الحكم العسكري، وإلغاء مشروع الدولة المدنية والتداول السلمي على السلطة. كما يشي ذلك المشهد بأنّ العلاقة بين المواطن والأجهزة الأمنية/ العسكرية قهرية/ سلطوية، قوامها التخويف والإكراه والترهيب. وهو ما يعمّق القطيعة بين المجلس العسكري الحاكم ومعظم المحكومين الذين سئموا جمهورية الخوف، ويحلمون بدولة “عدل، وسلام، وكرامة، وحرّية”.
المشهد الثالث، صورة ميدان الاعتصام بعد الهجمة العسكرية، المباغتة، الدامية. دماء مسفوكة،
كتبٌ مبعثرة، آلات موسيقية مكسّرة، خيام المعتصمين تلتهمها النيران، وجثث محتجّين ملقاة في الطرقات، وأُخرى في نهر النيل حتّى لا تظهر آثار الجريمة النكراء. مشهد تراجيدي بامتياز، يُخبر بعدم توازن في القوّة بين المحتجّين والعساكر، فالمعتصمون عبّروا عن وجودهم بقوّة الكتاب، والشعار، والموسيقى. أمّا العساكر، فعبّروا عن وجودهم بقوّة البنادق، وسطوة السياط، وأزيز الرصاص. ومراد هؤلاء التأسيس للذات عبر إلغاء الآخر، ولو تطلّب ذلك قتل المخالف وتغييبه أو إغراقه في أغوار النيل الموحشة.
المشهد الأخير، ظهر صبيحة فضّ الاعتصام، وما زال مستمرّا، في الخرطوم وعموم مدن السودان. ويتمثّل في انتشار الدبّابات، واحتلال فيالق عسكرية وأمنية أغلب الأحياء والشوارع الحيوية. وهو ما يجعل المتابع يخال البلاد في حالة حرب. أو هي في حالة استنفار قصوى لمواجهة عدوّ ما، والعدوّ هذه المرّة ليس خارجيّا، بل هو عموم المواطنين الساخطين من الحكم العسكري، والتوّاقين إلى إقامة دولةٍ مدنيّةٍ، تقدّميةٍ، ديمقراطية.
أمام تلك المشاهد المفزعة، يجوز للملاحظ أن يسأل: من أين سيكتسب المجلس العسكري مشروعيته السياسية والأخلاقية، بعد ذلك العنف السلطوي الغاشم؟ كيف له أن يحمي الثورة وقد تمّ قصف محتجّين مدنيين مسالمين؟ كيف له أن يؤسّس لسودانٍ جديد، وهو يُصرّ على عسكرة الدولة؟ هل يتوقّع المجلس العسكري الانتقالي رفع العقوبات الأميركية، ووفرة التمويل الأجنبي والاستثمار الخارجي في ظلّ انتهاكات حقوق الإنسان، ومحاصرة الحرّيات العامّة والخاصة؟ الثابت أنّ تلك المشاهد الصادمة، المريعة شوّهت المؤسّسة العسكرية/ الأمنية، وزادت من تراجع شعبيتها في الداخل السوداني، وهدمت جسر الثقة الهشّ بينها وبين الناس. وبعثت رسائل سلبية إلى العالم مفادها بأنّ المجلس العسكري غير جادّ في حماية الثورة، وليس متحمّسا لتكريس الديمقراطية وتأمين انتقال سلمي نحو عصر الدولة المدنية. وأحْرى بعقلاء المؤسّسة العسكرية، في هذه اللحظة الدقيقة من تاريخ السودان، المبادرة بتيسير نقل الحكم إلى المدنيين، والعمل على الفصل بين الجيش والسياسة على نحو يحدّ من الاحتقان، ويزرع الثقة بين الحاكم والمحكوم، ويدفع في اتجاه إقامة دولةٍ ديمقراطيةٍ، تقدّمية، وإلا فإنّ البلاد ستبقى على صفيحٍ ساخن، وهو ما لا يخدم مصلحة عموم السودانيين لا محالة.