الرئيسية / كتاب الموقع / قصة قصيرة (الكابوس) الدكتور احمد الزعبي

قصة قصيرة (الكابوس) الدكتور احمد الزعبي

الدكتور أحمد الزعبي
قصة قصيرة
الكابوس
إذ رأيت فيما يرى النائم…أني كُلّفت بالسفر إلى البؤر الملتهبة بالحروب والقلاقل في أرجاء الوطن العربي للاطلاع على طبيعة الصراعات وما وراء هذا الاقتتال الذي لا ينتهي….وبخاصة أصابع الأيدي الأجنبية التي (ترشّ الزيت على النار) ….
وكانت محطتي الأولى في القدس وبعد جولة خانقة بين الحراب والبنادق…والرصاص والحجارة …واخنق والاختناق ….وبعد أن فقدت أسناني التي اُقتلعت من فمي… أكملت طيراني باتجاه دمشق…تنقلت بين الخراب والدخان …ونهر بردى والمسجد الأموي والأشلاء المتناثرة والحرائق …وحين فقدت يدي اليمنى …طرت إلى بغداد…شربت من دجلة وعرّجت على مساجد محترقة في الجنوب ومساجد أخرى محترقة في الشمال… .وأغراب يسخرون ويبطشون … كانت حدائق بابل تلوّح لي بأغصانها أن اهبط قليلا …لكن الدخان كان خانقا…وكان النخيل ظمئا جافا … فرددت عليها السلام وقلت لها راجع إليك ..راجع استظلّ بأشجارك التي ستخضرّ وستزهر ثانية…وحين سقطت يدي اليسرى من جسدي.. وجّهت أجنحتي نحو صنعاء …وأنا أردّد…لا بدّ من صنعاء وإن طال السفر… اخترقت جبالها الشاهقة العريقة …وشاهدت حفرا ومسارب ووديان تختلط فيها الجثث الآدمية بأشجار النخيل المحترقة…وحين طارت رجلي اليمنى من جسدي طرت غربا إلى طرابلس…وقلت ألقي السلام على المختار …وآخذ حفنة من التراب المعجون بدماء الأطفال بعد قنابل الناتو…لكني حين فقدت رجلي اليسرى في تلك اللحظة…تابعت رحلتي الطائرة إلى القاهرة….حلّقت فوق الأهرامات… فسافرت بي الذاكرة آلاف السنين…وتراءى لي جبل الطور… والهرم …وعروس النيل…وصوت أم كلثوم…وقلت : اهبط قليلا في سيناء لأرى أين كلّم موسى ربّه…لكن الرصاص غطّى سمائي…وكدت أفقد رأسي…حين مرّ نصل سيف طائش من أمام رقبتي…فقلت الحمد لله …رأسي سليمة وكذلك رقبتي…وغادرتها وهي تلملم جراحها …ثم شاهدت وأنا في الجو طائرا أعلاما وأضواء واحتفالات ..فحمدت الله ثانية وقلت: نجت البلاد من النيران والدخان والخراب والأشلاء التي شاهدتها في تلك الجولة الكارثية المجنونة…
…ثم هبطت أخيرا في ساحة بيتي…كنت رأسا بلا أطراف…عمود فقري فوقه رأس آدمي…رأيت والدي ينظر إليّ بدهشة…من أنت…قال…ثمّ استدرك…أنت …أنت يا بنيّ…ماذا دهاك…أينك؟…أين يداك وقدماك وأسنانك ؟…أينك كلّك… ؟قلت له: كنت في مهمة خطيرة…جولة في أرجاء وطني الحبيب…فقدت فيه أعضائي…وقلبي وذاكرتي وعقلي وصوابي…وكل ما يخطر ببالك…أخذ والدي ما تبقّى مني واحتضنه بحرارة ودفء وحزن…ثم نادى بصوت حاد على إخوتي وبقية الأهل والأصدقاء …وقال لملموا جراح أخيكم…ربّتوا على كتفيه واحضنوه وعانقوه…فإنه على وشك الاختفاء…أو الفناء…وحين فعلوا تسرّب دفء حميم إلى جسدي … ثم بدأت أشعر بالقوة والصلابة ..وشعرت كأنّ روحي رُدّت إليّ… ثم فجأة بدأت أعضائي تعود إلى مكانها …صرخ والدي : الله أكبر…دُهشت …يداي وقدماي وأسناني …وبقية الأشياء… ردّت إليّ بلمح البصر…حضنت والدي ثانية…وهجمت على إخوتي أعانقهم…فإذا بي أعانق سريري…وأصحو من نومي وكوابيسي…مذعورا…مرتبكا من رحلة الغرائب والعجائب….ورحت فورا أتحسس وجهي ورقبتي وجسدي بقلق وتوجّس…وقلت الحمد لله…كل شيء على ما يُرام…. ونهضت من نومي …ولم أعد إليه…
أبوظبي /2017م