الرئيسية / كتاب الموقع / في وداع العلَّامة المُحقِّق يحيى وهيب الجبوريّ

في وداع العلَّامة المُحقِّق يحيى وهيب الجبوريّ

 

بقلم الأستاذ الدكتور محمد محمود الدروبي

في فجرِ يومِ الأَربعاء السَّابع والعشرين من شهر ذِي الحجَّة سَنةَ (1440هـ)، الموافق للثَّامن والعشرين من شهر آب (أَغسطس) سَنةَ (2019م)، فاضت – في مدينةِ عمَّان- رُوحُ العلَّامةِ المُحقِّق المُدقِّق الأُستاذ الثَّبْت الدّكتور يحيى بن وهيب الجبوريّ، البَغْداديِّ مَولداً ونَشأة، العَمَّانيِّ مَنزلاً ووَفاة، شيخ الجيل الأَصيل، من كبار سَدَنةِ التُّراث العربيِّ المُعاصرين، وأَشهر جَهابذة صَنعةِ التَّحقيق وصُنّاعِ الدَّواوين في العصر الماثل، وخاتمة الأَساتيذ المُحقِّقين المُعمَّرِين، القابضين على جَمرِ القلم، الصَّابرين على وَعْثاء السَّطر، في زمنِ المحن والإِحن، وآنِ الاغتراب والاستلاب، ودَهْرِ الانتكاس والارتكاس.
وفَقَدت العربيَّةُ الشَّريفةُ والثَّقافةُ الإِسلاميَّةُ برحيلِ أَبي الفُراتِ طَوْداً شامخاً من أَطوادِ التُّراث، وعَلَماً راسخاً من عُلماءِ الأُمَّة الثِّقات، ونَهراً مادّاً من أَنهار المعرفةِ العلميَّةِ العَمِيقة، ومَرجعاً وَثيقاً من مراجع الأَدب العربيِّ القديم، وأُنموذجاً عالياً في الجَلَدِ والمُدارسَة، وإِنفاقِ السَّاعات الطِّوال في مُجالَسةِ المظانّ، ومُداومَةِ المُباحثة، ووصلِ الليل بالنَّهار .
ولدَ – رحمهُ الله – في أُسرةٍ سُنيَّةٍ مُحافِظَة، في أَفياء مدينةِ السَّلام – بغداد – سَنةَ (1932م)، واختلفَ إِلى مدارسِ المدينة صَغيراً، ونال حَظّاً من العُلُومِ الأَساسيَّة، وبدت عليه مخايلُ النَّجابةِ صَغيراً، وأَحبَّ العربيَّةَ مُنذُ نُعُومةِ أَظفاره، ومالَ إليها كُلَّ الميل، وحَفِظَ من عُيون الأَشعار الجاهليَّة والإِسلاميَّة شَيئاً وافراً، وعَشِقَ التَّاريخَ الإِسلاميّ، وقرأ بعضَ أَسفاره القَيِّمة. وأَكملَ دِراسته الجامعيَّةَ الأُولى في جامعة بغداد، وانْتقلَ – مِنْ بعدُ- إِلى مدينَةِ الإِسكندريَّة، وأَكملَ دراسة الماجستير، في جامعتها، سَنةَ (1963م)، برسالته الموسُومة: “شعر المُخْضَرمين وأَثر الإِسلام فيه”، بإِشراف أُستاذه الدكتور محمَّد طه الحاجريَّ. وتَوجَّه بُعَيدَ ذلك، إِلى القاهِرة؛ ليتمَّ دِراساته العُليا، في جامعتها، سَنةَ (1966م)، وكان عُنوان أُطروحته: “لَبيد بن رَبيعة العامريّ : حياتُهُ وشعره”، بإِشراف أُستاذه الدكتور أَحمد محمَّد الحوفيّ.
استطاعَ الجبوريّ أَن يجمعَ بين خصائص المدرستين: العِراقيَّة والمصريَّة، في دراسة الأَدب العربيِّ والتَّعاطي مع التُّراث، فاخْترطَ لنفسه مَنهجاً عِلميّاً اسْتتبَّ على الجمعِ بين الميزاتِ التي قَرَّتْ في هاتين المدرستين الرَّصينتين. وعاد أَدراجه – بعد مَحَطَّته المصريَّة- إِلى بغداد؛ ليعملَ في جامعتها، إِلى جانب ثُلَّةٍ من كبارِ الأَساتذة العِراقيين، من الرَّعيل الأَوَّل، من مثل الدّكاترة: مهدي المخزوميّ، وإِبراهيم السَّامرائيّ، ونُوري القيسيّ، وحاتم الضَّامن، وداود سَلُّوم، ومُحسن غيّاض، ووديعة النَّجم، وغيرهم. وكان على وَثيقِ صلةٍ وصَداقةٍ حقيقيَّةٍ بالأُستاذين: الدكتور علي جواد الطَّاهر، والدكتور هاشم الطَّعان، خاصَّة.
وبعد سَنواتٍ من العمل الدَّؤوب في جامعة بغداد، وغيرها من الجامعات العراقيَّة، سافرَ الجبوريّ إِلى (بريطانيا) سنةَ (1973م)، مُتفرِّغاً للبحث العِلميِّ في جامعة (كمبردج)، مُفيداً من كُلِّ الطَّاقاتِ البحثيَّةِ الهائلةِ هُنالك، مُوثِّقاً صِلاته بعشرات المخطُوطات العربيَّة الأَصيلة، مُطِّلعاً على العديد من الدِّراسات الاستشراقيَّة، مُتعمِّقاً في دراسة الرِّطانة الإِنجليزيَّة التي مَكَّنته من تقديم بعض التَّجارب النَّاجِحة في ميدان التَّرجمة والتَّعريب، على ما سنراهُ من قريب.
تابعَ الجبوريّ – بعدَ عَودته من الغَرب- مَسيرتَهُ في جامعةِ بغداد، تدريساً وتأليفاً وتحقيقاً، إِلى أَن اشتدَّت عليه وطأةُ بعض الشَّانئين، الذين راحوا يحيكون الدَّسائسَ العلميَّةَ والشَّخصيَّةَ حوله، وصادفَ ذلك إِيمانُهُ الصُّلب بالعُروبة الصَّافية، وعدم قَناعته بالأَفكار البعثيَّة التي كانت تحكمُ العراقَ زَمنذاك، فتعرَّضَ لشيءٍ من المُضايقات، داخلَ الجامعة وخارجها، ممَّا كدَّر صفوَ خاطره العلميّ ورضاه النَّفسيّ، وجعلهُ يشعرُ بالغُبن الفادح، والغُصَّة الأَليمة، ويرى كآبةَ المنظر رأْيَ العَين، فراحَ يُقلِّبُ وجههُ في السَّماء، إلى أَن قرَّرَ النُّزوحَ عن وطنه العزيز، فَسافرَ إِلى قطر، وعَمِلَ أُستاذاً في جامعتها النَّاشئة آنذاك، وشَغَلَ موقعَ وكيل كُليَّة الآداب والإِنسانيات سنوات، ووجدَ بعضَ ضالته هناك.
استعذبَ الجبوريّ الحياةَ خارج وطنه، وإِن ظلَّ يتردد عليه بين الفينةِ والأُخرى، إِبَّان الحربِ مع إِيران، ثُمَّ انْقطعَ عنه تماماً، وعاشَ شَطراً كَبيراً من حياته مُغْترباً مُتَنقلاً بين: قطر واليمن والسّعوديَّة وليبيا وتُونس والجزائر والمغرب، مُدَرِّساً في العديد من الجامعاتِ العربيَّة، إِلى أَن وفدَ – أَخيراً- على الأُردن سَنةَ (1994م)؛ للعملِ أُستاذاً ورئيساً لقسم اللُغة العربيَّة، في جامعة آل البيت، المؤسَّسة تَوّاً في مدينةِ المفرق، فأَلقى عَصا التَّسيار، واسْتقرَّت به النَّوى، وعَمِلَ سَنواتٍ في تلك الجامعة مُعزَّزاً مُكرَّماً، وكانت له جُهُودٌ بَيضاءُ مبرُورةٌ في وضع الخُطط وتصميم البرامج والمناهج الدِّراسيَّة، والإِشراف على طَلبة الدِّراسات العُليا، وتقديم الرُّؤى العلميَّة الحصيفة، والاستشارات البحثيَّة الثَّمينة، للباحثين والطَّلبة على السَّواء.
ولما بَلَغَ السَّبعين، أُحِيلَ على التَّقاعد، فتحول للعملِ في جامعة إِربد الأهليَّة، وثَبَتَ فيها سَنواتٍ عميداً لكلية الآداب، ثم عميداً للبحث العلميّ والدِّراسات العليا، إِلى أَن آثرَ التَّفرغَ العِلْميَّ التَّام، والتَّخلي عن رسالةِ التَّدريسِ الجامعيِّ التي أَخلصَ لها أَكثر من نصف قرن. ومنذُ وِفادته على الأُردن، سَكَنَ – رحمهُ الله – مدينةَ إِربد أَزيدَ من عشر سنوات، ثُمَّ استقرَّ- أَخيراً – في مدينةِ عَمَّان، وكان يسكنُ في شُقَّةٍ بإِزاء شارع وصفي التَّل (الجاردنز)، إِلى جِوار صَديقه وخِدْنه في التَّخصص الأُستاذ المرحُوم الدكتور عفيف عبدالرَّحمن الذي قضى إِلى رحمة الله ورضوانه قبل أَربعة أَشهر فحسب.
عَرفتُ العلَّامةَ الجبوريّ منذُ اثنين وعشرين عاماً، وتَوثَّقت صِلتي العلميَّةُ به منذُ عُينتُ في جامعة آل البَيْت، فوجدتني أَمامَ بحرٍ زخَّارٍ من بُحُور العلم، وأَلفيتني أمام مكتبةٍ في رَجُل ،وأَيّ رَجُل !! وما زلتُ أَستذكر لقاءنا الأَوَّلَ في مكتبه، فقد لقيتُ هَيبةَ العُلماء الأَجلاء حاضرة في شخصه، كان يَتحدَّث عن جُهدِهِ في إِكمالِ تحقيق كتاب: “المُنتخل” للميكاليّ. وكانت عادته أَن يتولى طباعة كُلِّ كتاب يُؤلفه أو يُحققه بنفسه، فنالني إعجابٌ شديدٌ بهذا الشَّيخ الذي أَطلَّ على السَّبعين، وهو يُتقنُ مهارات الحاسوب، وتقانات الطِّباعة والتَّنسيق، ويتعامل مع برامج (المكيرو سوفت)، بصُورةٍ تدعو إِلى التَّأمل، في وقتٍ كان انتشار وسائل التّقانة فيه محدوداً.
كُنتُ أُقابله بصُورةٍ دائمة، فأَجلسُ بين يديه، وأَسْتمعُ إِليه بشديدٍ انتباه، مُفيداً من خبراته وتجاربه العميقة. كان يسترسلُ – دوماً- مُتحدِّثاً عن حياته الشَّخصيَّة وسِيرته العلميَّة، وما لقي من العَسَفِ والغُبن، ممَّا اضطره إِلى الغُربةِ غيرَ طائع. وكان – رحمهُ الله – يُدنيني منه مَلياً، ويُسِرُّ إليَّ كثيراً من الأَشياء، ويختارني للمُشاركة معه في مُناقشةِ الرَّسائل العلميَّة التي كان يُشرفُ عليها، رُغْمَ طَراوةِ عُودي وقتها، مُقدِّماً إِياي على كبار الأَساتيذ في القسم، ممَّا ولَّدَ في نفسي مَحبّةً زائدةً له، وتَوقيراً مُضافاً لعلمِهِ الوفير وشخصِهِ الكريم. وكثيراً ما كان يسمعُ إِلى تساؤلاتي العلميَّة، فيوجهني أَحسنَ توجيه.
ولما عَزَمَ – رحمه الله – على إِعادة صِناعة ديوان الوزير العبَّاسيَّ محمَّد بن عبد الملِك الزَّيَّات، وجمعِ ما بقي من شَتات نَثره، قَدَّمتُ إِليه ضُمامةً فيها ما عَثرتُ عليه من توقيعات هذا الوزير، فَسُرَّ أَيمَّا سُرور، وطلبَ إِلي أَن يضمَّها إِلى مجمُوع نثره الذي عُني بتحقيقه، ولم يلبث حتى صَدَرَ الدِّيوان، ووجدتُ كلمةَ شُكر كريمة مرقونةً بحقي في ذلكُم السَّفر العلميّ، وشعرتُ بالغِبْطة.
وغدا العلَّامةُ الجبوريّ – مع مُرور الزَّمن – أُستاذي ومُوجهي الذي أَفيءُ إِليه في كثيرٍ من الاستشارات العلميَّة، فيضيءُ لي عَتمةَ الطَّريق، و يُبددُ عوائقَ الدَّرب، فكان فضلُهُ عليَّ عظيماً بحقّ، ورعايته لي مُثلى عن صِدْق. وتَلقيتُ عليه بعضَ قواعدِ تحقيق النَّصّ، وأَفدتُ من عميق خبراته في هذه الصَّنعة، ممَّا يلزمني أَن أُنوه به. وكنت أقرأ في عينيه الدَّامعتين – دوماً جراءَ القراءة – رسيسَ المعاني المخبوءة التي لم يستطع لسانه أن يبوحَ بها.
وإذا مَنَّ اللهُ عليَّ بأَن تكونَ شَهادتي في هذا الرَّجل النَّبيل غيرَ مجرُوحة، فلقد رأيتُ من سَعة علمه، وطويل صبره، وعجيب جلده، ونقاء سريرته، وصفاء قلبه، وكرم نفسه، وزُهد مسلكه، وإخلاصه للُغة القُرآن الكريم، وآداب اللسان العربيّ، وحُبِّه للعُروبة والإِسلام، ما يدعو إِلى ذكره بِكُلِّ أُحدوثة حَسَنة ونَشْوار طَيّب، مع ما عرفته من اعتداده بآرائه، واعتصامه بمنهجه العلميّ، وذوده عن حياض أَفكاره ومَبادئه، وتشبُّثه بقناعاته العلميَّة والشَّخصيَّة، فضلاً عن قُوَّة النَّفس، وحِدَّة المزاج، وصَلابة الشَّكيمة، وعدم الاستكانة والخَشية في الحقّ، ممَّا كلفه أثماناً باهظةً دفعها – عاجلاً غير آجل- في كُلِّ أَطوار حياته. وأَشهدُ أَني لم أَرَ في حَياتي كُلِّها نَظيراً له في كَسْبِ الوقت، وعدم هدره فيما لا طائلَ تحته، فلقد كان يُمْضي سَحابةَ يومه، في الكِتابةِ والقراءة، وكان وقتهُ بين مُحاضراته العلميَّة مُكتظاً بالعملِ الدَّؤوب النَّافع. وكان من عادته أَن يقومَ بكلِّ خُطوات البحث العلميِّ بنفسه ، ولا يستند على أَحد من طلابه، كما يصنعُ كثيرٌ من المحقِّقين.
بدأت مسيرةُ عطاء الجبوريّ العلميَّة مُذْ كان في العَقْد الرَّابع من العُمر، أَي في ستينيات القرن المُنصرم، فقد نَشَرَ باكورةَ أَعماله العلميَّة، في بغداد، سَنةَ (1964م)، في كتابٍ مُهمٍّ حملَ عُنواناً جَدليّاً لافتاً، هو: “الإِسلام والشِّعر”. وقد تعرَّضَ هذا الجهدُ الرِّياديُّ لسرقةٍ علميَّةٍ معرُوفة، إِذ أَغار عليه في وضحِ النَّهار أُستاذٌ عِراقيٌّ معُروفٌ ذُو نُفُوذٍ في الدَّولة آنذاك، فَسطا عليه سَطْوَ الذِّئاب، ونحله لنفسه غَيْرَ مُحْتَشم، ونَشرهُ بالعُنوان ذاته!! ومن عجائب المقدُور أَن ينالَ هذا العملُ شُهرةً واسعَ في أَوساط الدَّارسين غطَّت على صنيعِ الجبوريِّ الرَّائدِ في مَيدانه، ممَّا جعلَ الرَّجلَ يشعرُ بمزيدِ غُصَّةٍ للحالِ التي تَناهت إِليها الأَمانةُ العلميَّةُ عند بعض الأَسماءِ الطَّنانة. وأَردفَ الجبوريّ – في العام نفسه- بنشر رسالته الماجستير: “شعر المُخَضْرين وأَثر الإِسلام فيه”.
وما إِن وطئت قدمُهُ تُرابَ بغداد عائداً من القاهِرة، حاملاً درجةَ الدكتوراه، حتى جدَّ في نشر طائفةٍ من تآليفه التي انصبَّت على جمع الشِّعر الجاهليّ والإِسلاميّ، وصناعة مُدوَّناته، وتحقيق عُيُونه، فضلاً عن تقديم عددٍ من الدِّراسات الأَدبيَّة والنَّقديَّة والحضاريَّة الجادَّة في هذه السَّبيل. وتكللَ جُهدُهُ البحثيُّ سَنةَ (1968م) بثلاثة إِصدارات جديدة نُشرت جميعها في بغداد، وهي :”ديوان العبَّاس بن مِرداس السُّلميّ “، و” الجاهليَّة: مُقدِّمة في الحياة العربيَّة لدراسة الشِّعر الجاهلي”، و”شعر النُّعمان بن بَشير الأَنصاريّ”.
ورسخت قَدمُ الجبوريّ العلميَّةُ في عَقْد السَّبعينيات من القرنِ الفائت، وبَلَغَ أَوجَ عَطائه العلميّ، فقد أَصدرَ في هذا العَقْد خمسةَ عشرَ كتاباً جَديداً، نُشرت في بغداد ودمشق وبيروت والقاهِرة، منها اثنا عشرَ عملاً انصَّبت على صَنْعةِ الدَّواوين الشِّعريَّة وتحقيقها، وضمَّت دواوينَ الشِّعراء : عُروة بن أُذَيْنة (1970م)، ولَبيد بن رَبيعة العامريّ (1970م) ،والمُتوكِّل الليثيّ (1971م) ،والحارث بن خالد المخزُوميّ(1972م)