الرئيسية / كتاب الموقع / د. أحمد الزعبي – قصة قصيرة..المرضـــــى

د. أحمد الزعبي – قصة قصيرة..المرضـــــى

قبل حوالي عشر دقائق اندفع شاب ضخم الجثة قوي العضلات إلى صالة المستشفى حيث كنا نحن المرضى في ساعة الاستراحة اليومية نتجمع في تلك الصالة. كان عددنا كبيرا وكانت عاهاتنا مختلفة، بعضها مؤقت وبعضها الآخر مزمن، وكانت هناك أمراض لم يعرف مداها على وجه الدقة تنتظر تقارير الأطباء.

حين أعلنت الساعة الثانية عشرة ظهرا انتشرنا في أنحاء الصالة بملابسنا البيضاء نقضي فترة الاستراحة قبل أن نعود إلى غرفنا المملة القاتلة. خرج بعض المرضى يتأرجحون ويتكئون بعضهم على بعض، وخرج آخرون يدفعون كراسيهم الكهربائية لعجزهم عن المشي، بينما دفع بعض الممرضين والممرضات مجموعة أخرى من المرضى تجلس في كراسي المشلولين بهدوء وضجر، وهؤلاء كانوا أتعس أنواع المرضى في المستشفى يقضون معظم وقتهم في شبه غيبوبة. كنت أنا من الفئة الوسطى، أجلس في كرسي وأحرك عجلاته بيدي ثم أمضي هنا وهناك، أحادث مريضا وأضحك مع مشلول وأتأمل غائبا عن وعيه.

هكذا كان الأمر مع بقية المرضى يتجمعون معا ويتكلمون بأمور مختلفة كأدويتهم وآمالهم في الشفاء وزيارات الأقارب… الخ. في تلك اللحظة ولم يمض على استراحتنا أكثر من عشر دقائق اندفع الشاب فجأة إلى الصالة وفتح شباكا عريضا يطل على شارع رئيسي في المدينة فتدفق هواء بارد منعش غمر أنحاء الصالة. نظرنا جميعا إلى الشاب بدهشة وذهول، إنه لا بد مجنون ألا يعرف أننا مرضى وقد يقتلنا هذا الهواء البارد فصرخ منا من يقوى على الصراخ بوجهه، ما الذي تفعله؟ يا هذا، هل فقدت عقلك، هذا يضر بصحتنا وقد يقتلنا، أغلق الشباك. لم يتحرك الشاب الغريب من مكانه وبدا مصرا على ما فعله. تسرب إلينا هواء بارد فازداد صوتنا حدة وجسمنا قدرة على الحركة فارتفع صراخ من هنا وهناك أن الشاب مجنون ينوي تدمير صحتنا والقضاء علينا.

رأيت المرضى الذين يتأرجحون ينتفضون ويمشون بشكل سليم باتجاه الشاب مهددين زاعقين، ثم وجدت نفسي أتململ في كرسي الكريه كأنني أقوى على النهوض، وفعلت، نهضت ببطء وأنا لا أصدق جسدي ومشيت مندهشا باتجاه الشاب وصوتي يزداد عنفا وتهديدا، وأغرب من هذا أن بعض المشلولين الغائبين عن وعيهم قد فتحوا عيونهم وحركوا رؤوسهم باتجاه الضجة المرتفعة حتى أن بعضا منهم دفع بكرسيه ثم وقف على قدميه وهجم على الشاب.

تجمعنا جميعا وسرنا باتجاه الشاب الذي ما زال يقف بتحد إلى جانب الشباك، وشعرنا جميعا كأنما روح غريبة تسري في عروقنا وتمنحنا القوة والنشاط ….كأنما لم نكن مرضى قبل لحظات. اقتربنا من الشاب نريد التهامه وكل يصرخ بصوت مرتفع إنه لا شك مجنون. وقفنا أمامه وجها لوجه واستمر المرضى يزحفون حتى أحطنا بالشاب من جميع الجهات وهو يقف كتمثال بلا حراك.

ازداد شعورنا بالبرد وقد وقفنا لحظة إلى جانب الشباك نأمره بإغلاقه، ولما لم يستجب اقترب أحد المرضى وحاول إغلاق الشباك لكن ساعد الشاب القوية اعترضت طريقه ومنعته من ذلك. ازددنا شعورا بالنقمة والغضب وشعرنا أنه يجب إغلاق الشباك بالقوة. حاول آخرون ولكن الشاب منعهم بقوة وثقة، عندها هجمنا جميعا على الشاب الضخم فضربناه وركلناه وهو يتلقى الضربات حينا ويردها حينا آخر لكننا أخيرا طرحناه أرضا….. أطباء وممرضون وعمال يركضون باتجاه المعركة فشقوا صفوف الحشد المزدحم وكنا ما زلنا نضرب الشاب بقصد القضاء عليه نهائيا لكن الأطباء استطاعوا تخليصه من بين أيدينا في اللحظات الأخيرة.

شرحنا لهم الأمر ثم طلبوا منا أن نهدأ وقام أحدهم بإغلاق الشباك ثم أمر بنقل الشاب الذي فقد وعيه إلى الداخل والإسراع في إسعافه. التزمنا الهدوء التام وشعرنا بالنصر وكان الأطباء يشيرون علينا بالعودة إلى غرفنا وأننا سنخبر بأمر هذا الشاب المجنون بعد التحقيق معه. عدنا إلى أماكننا ببطء ثقيل وما إن وصلت كرسيي حتى أصبت بالخمول وشعرت بالعجز وأنا أجلس فيه وبعدها لم أستطع النهوض منه.

عاد المرضى الآخرون إلى أماكنهم وقد بدأوا يتأرجحون كما كان أمرهم قبل قليل ثم رأيت من كان مشلولا فاقدا وعيه يعود إلى حالته بعد أن نهض نشيطا قبل قليل حين فُتح الشبّاك…عدنا إلى تبادل الحديث والمزاح ونحن في طريقنا إلى غرفنا ننظر بين الخطوة والأخرى إلى الشباك المغلق باطمئنان وارتياح وقد بدأ الدفء يتسرب إلى أجسادنا وعدنا إلى طبيعتنا العاجزة التي كنا عليها قبل أن يقدم المجنون على فعلته.