الرئيسية / كتاب الموقع / حوارُ الأجيال

حوارُ الأجيال

 

امل المشايخ
كلّما تحدّثتُ مع أطفالِ العائلةِ عنْ جيلِنا واهتماماتِنا حينَ كنّا صِغارًا أبدوْا امتعاضًا لفروقِ الأجيالِ، الصَّغيرُ إياس ابن شقيقي إسحاق قال لي يومًا: “عمتو إنتو من (زمن الفجلة)!” ضحكتُ كثيرًا، ولمْ أسألْ إياس ما الذي يعنيه ب(زمن الفجلة) ولكنّي فهمتُ أنّه يريدُ أنْ يدلّلَ على بعدِ المسافةِ بينَ جيلِنا وجيلِهم.
ذكّرني إسحاق ليلةَ أمس بجلساتِنا الجميلةِ حولَ المدفأةِ في شتاءاتِ عمّان البعيدةِ وكوبِ الشّايِ بالمرميّةِ، وصحنِ الزَّيتِ والزَّعترِ، والخبزِ المحمَّصِ، وما قرأنْا منْ كتبٍ وقصصٍ، ذكّرني بكتابٍ لإبراهيمَ المصري – رحمه الله – بعنوان (صراع الحبِّ والعبقريَّة) الذي ربّما يكونُ عنوانًا لمقالةٍ قادمة .. في تلك السِّنِّ الصَّغيرةِ قرأنْا قصصًا و كتبًا أدبيَّةً وعلميَّةً وفكريَّةً، وقرأنْا مجلاتِ الكبارِ والصِّغارِ، وحفظْنا مقاطعَ منْ تلك القصصِ التي شكّلتْ عندنا جانبًا من الفكرِ والوجدان.
لعلَّ الحديثَ عنْ هذه الثّنائيَّةِ: جيلِ الأمسِ واليومِ يظلُّ قائمًا فيما يتّصلُ بالدّرسِ الأدبيِّ والمحورِ التَّربويِّ أيضًا، أمّا الدّرسُ الأدبيُّ فكانتْ بنيةُ المجتمعِ العربيِّ مادّةً مهمّةً للرّوايةِ العربيَّةِ وظهورِ مدارسَ أدبيَّةٍ ونقديَّةٍ تتصدّى للواقعِ الجديدِ منْ مثلِ المدرسةِ الواقعيَّةِ، والواقعيَّةِ الجديدةِ (الاشتراكيّة) الأمرُ الذي يعينُ على فهمِ الأدبِ ضمنَ تحوّلاتِ المجتمعاتِ التي يشكّلُ الأفرادُ / الأبطالُ جزءًا مهمًّا منها، وإنْ شئنا فلنراجعْ قراءتَنا لأعمالِ نجيب محفوظ وثلاثيّتِه تحديدًا – التي منْ أجلِها و أعمالٍ أخرى استحقّ نوبل – إذْ تصدّتْ لحياةِ ثلاثةِ أجيالٍ بكلِّ ما تعنيه وتحتاجُه هذه الأجيالُ منْ تغيّراتٍ وتحوّلاتٍ في المجتمعِ على صعيدِ الفكرِ والاقتصادِ وأنظمةِ الحكمِ المختلفةِ التي أعقبت الثّوراتِ، وليسَ الكلامُ عن التّربيّةِ والتّعليمِ ببعيدٍ عنْ ذلك؛ فتحوّلاتُ المجتمعاتِ ابنٌ شرعيٌّ لتغيّرِ أنظمةِ التَّعليمِ وقوانينِ التَّربيّةِ، لا سيِّما بعد هذا الحماسِ الذي يبديه الآباءُ لتعليم أبنائِهم في المدارسِ الأجنبيّةِ ، ومنْ نافلةِ القولِ – بعدَ ذلك – أنْ نتحدَّثَ عنْ ظهورِ جيلٍ جديدٍ ربّته التّكنلوجيا والميديا أكثرَ ممّا ربّاه الآباءُ، ولنا أنْ نتخيَّلَ أيضًا ماذا صنعَ الاهتمامُ باللّغاتِ الأجنبيّةِ -على حسابِ العربيّةِ بالطّبع- منْ تغيّرٍ في بنيةِ مجتمعٍ صنعه الأبناءُ، وبدهيٌّ ماذا سيورّثُ هؤلاء لأبنائِهم الذين سيعيشون في واقعٍ “غريبِ الوجهِ واليدِ واللّسانِ” عمّا عشْنا وشهدْنا ….
في مناظرةٍ لطيفةٍ بينَ الأجيالِ كانَ كلُّ جيلٍ يتباهى بسماتِ العَقدِ الذي وُلد فيه، فكانَ جيلُ الخمسينيّاتِ والستينيّاتِ من القرنِ الماضي يتباهوْن بأنّهم الجيلُ الذي أكلَ الخضرواتِ والفواكهَ الطّازجةَ دونَ سمادٍ كيماويٍّ، ولعبوا ألعابًا تجسّدتْ فيها البساطةُ والبراءةُ كالحّجْلة والطُّماية، أمّا جيلُ السّبعينيّاتِ والثّمانينيّاتِ فتباهوْا بأنّهم آخرُ جيلٍ لعبَ في الشَّارعِ، والجيلُ الأوّلُ الذي لعبَ ألعابَ الفيديو، وهم الجيلُ الذي تواصلَ بالتّلفونِ الأرضيِّ دونما (فيس بوك) أو (تويتر)، واستمتعَ بقنواتِ التّلفازِ المحدودةِ قبلَ عصرِ الفضائيّاتِ…
بعدَ ذلكَ تباهى جيلُ التّسعينيّاتِ بأنّهم أكثرُ الأطفالِ تميّزًا بطفولتِهم الممتعةِ التي لمْ يحظَ بها أطفالُ الأجيالِ السّابقة والتّالية، والسَّببُ ميلادُهم بين جيلين: القديمِ جيلِ الثّمانييّات، والحديثِ الذي ندعو اللهَ أنْ يحفظَه ممّا آلتْ إليه التّكنولوجيا، الجيلِ الذي وُلد في زمن حروبِ الخليجِ، والخريفِ العربيِّ، وأيامِ الكيماويِّ ….
تساءلَ شقيقي مُمتعضًا في محادثتِه يومَ أمسِ: أيُّ ذكرياتٍ ستعيشُ في فكرِ وعقلِ جيلِ اليومِ؟! الألعابُ الإلكترونيَّةُ؟ أمْ فضائيّاتُ السُّخفِ؟ …..
وللحقِّ لستُ من الذين يحبّونَ التَّباكي على جيلٍ ماضٍ، ولستُ مقتنعةً بجدوى المقارنةِ بينَ الأجيالِ؛ فقدْ خُلقوا لزمانٍ غيرِ زمانِنا كما أشارَ الخليفةُ الرّاشديُّ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فلكلِّ جيلٍ سماتٌ تجعلُه يستمتعُ بما فيها منْ هباتٍ، وعليه مواجهةُ ما فيها منْ نقمٍ وتحديّاتٍ، ليصلَ إلى مستقبلٍ نتمنّى دومًا أنْ يكونَ مشرقًا، وحينَ نقولُ (مشرق) فإنَّ القلوبَ قبلَ العقولِ ترنو إلى فضاءاتٍ من الحريَّةِ والسَّلامِ.
#أمل_المشايخ
#في_الشأن_التربوي