الرئيسية / كتاب الموقع / تونس القدوة والقدر

تونس القدوة والقدر

تونس القدوة والقدر

الدكتور عبد الله الزعبي

على وقع السنين ومآسي الدهر، ومع عذبات الأيام وعجاج الوقت، عندما هرم ذاك الشيخ التونسي المتعب؛ دوت شكواه على الشاشات فتدفقت في جدران اعماقه أنهاراً، حين امتلئت حشاشته بأغاريد البؤس وأطبق على خاصرته الوجع، عندئذ أشعل البوعزيزي نار اللوعة في جسده والقهر، حتى سال شرر الغضب في ربوع عدنان، وعلى صدى القصائد جـاء الربيـع بأنغامـه وأحلامـه وصِبـاه العطِـر، حين دعا الشباب ليتنشق عبير الحرية والأمل، وحين حثه على صعود الجبال حتى لا يعيش أبد الدهر بين الحفر، حينئذ نطق الصمت حقاً وبان الخير في ثنايا الخبر، ورويداً أتى الربيع برئيس عربي منتخب يشق دروب الرجولة ويحلق على شمم الحكمة وقمم الهمة.

يظهر اليوم في الأمة قيس آخر، في صعاب زمن تعم فيه الشدة ويشيخ الجوع، قيس يتبختر كأنه بن ذريح صاحب لبنى حين يتباهى يإخوة بن أبي طالب والرضاع، ومثل إبن الملوح مجنون العامرية في جبل التوباد، يطل من الخضراء تونس، تلك الــجـــمــيــلة التي سبحَ أبنها الشابي فـــي لــج هواها؛ فذاق مر حبها وقراحها. يتوج بالفوز اليوم قيس عروبي يعانق شوق الوجـود الأغـر، ويأبى لقومه أن يتبخر في جوه ويندثر، تحسبه ينشد في عزة النصر على الأصفاد، نغم الشعب والحياة حين يستجيب القدر؛ إذ لا بد لليل أن ينجلي، ولا بد للقيد أن ينكســـر. ومن وراء الظلام دعاه الصباح وهتف له ربيع الكون، أن هلم ودع ضباب الأسى وفجاج الجحيم، وأعلن للأمة كما أعلن أبو القاسم، أن الطموح لهيب العمر وروح الظفر، وشف الدجى عن جمال عميق يشب الخيـال ويذكي الفكر. أنه قيس آخر فيه من إسمه نصيب، إبن منصف وسعيد من بني الخير، وأمه تدعى زكية، أستاذ جامعي أصبح اليوم رئيساً عربياً، أخيراً يتقن اللغة العربية.

يحدو الأمل اليوم خاطر الفؤاد أن تلفظ الأمة كأس الزيف والزبد، أن تنحو صوب تونس في صدق الإرادة وجميل العمل، فها هي الخضراء قد حققت نبوءة الشابي واستجابت للحياة وأصغت للقدر، ففي كل زاوية في ربوع الأوطان قيس وفي كل ركن زيد وعمرو، وفي كل زمان وحين هنالك عبدالله وهناك عمر، زمراً تسعى للخير وتحمل بأيديها كنوز اليقين وتعزف أنغام القدر، ثلة تحمل النور في قلبها وترنو إلى المجد تحت ظل القمر، ثلة لا تخشى السير في الظلماء وتسخر من وحشة البيداء وعطش الصحراء، ثلة هناك في أرض العروبة تأمل يوماً أن يستجيب القدر.