الرئيسية / منوعات / بقدميها.. ترصِف لوحات الفسيفساء وترتشف القهوة..صور

بقدميها.. ترصِف لوحات الفسيفساء وترتشف القهوة..صور

  – غدير السعدي

ابتسامتها لا تفارقها أبداً، هي ترى نفسها شابة قوية.. وأشد ما يؤذيها ويكدّر خاطرَها أن ترى نظرات الشفقة والعطف في عيون الناس، أو عبارات المواساة من أفواههم.

تلك هي رحمة خيرالله.. شابة في أوج عنفوانها.. تضج بالحياة والنشاط.. ولا تلقي بالا لوضعها الجسدي الخَلقي الذي رافقها منذ النفحة الأولى التي جاءت بها إلى الدنيا.

رحمة، ولدت بلا يدين، حتى الكتفين،، غير أن أكتافها «عالية» يستطيع الآخرون أن يتكئوا عليها ويتخذوها سندا.

بمنتهى الخفة التي وهبها الله للكائن، تتنقّل رحمة، تستخدم قدميها في إنجاز أعمالها بسهولة ويسر، تُغضبها نظرات الشفقة، وبخاصة عندما يتعجبون من استخدامها قدميها اللتين تعتبرهما «أغلى من الذهب» وترى أنها، والكمال لله، «لا ينقصني شيء».

رحمة، ابنة الـ34 عاماً، هي الوحيدة بين أفراد عائلتها التي ولدت من أصحاب الهمم، تخدم نفسها بنفسها باستخدام قدميها، إذ تعتمد عليهما في إنجاز مهماتها اليومية كافة دون مساعدة أحد.

وأنا أجلس إليها، أحادثها، كان هاجسي أن أرفع من معنوياتها وأشجعها، غير أنها هي التي أمدتني بطاقة إيجابية، بحيويتها والابتسامة التي لا تفارق محياها.

تمسك الهاتف الخلوي بقدمها اليمنى، وتستخدمه بيسرها بيسر وسلاسة، تمسك بقدمها فنجان القهوة بثقة، ترتشف منه رشفة، تعيده إلى الطاولة، وأنا في دخيلتي أدعو الله ألا يقع منها، تلاحظ نظرتي المتخوفة، غيرأنها تتصرف وكأنها لم ترني، لتقول لي مبتسمة: «عادي».

رحمة، العضوة بنادي المستقبل للإعاقة الحركية، حصدت ميداليتين ذهبيتين وفضية في رياضة الجري.

وهي تلقت تعليمها في جمعية الحسين للإعاقة الحركية من الصف الأول الابتدائي إلى السادس، وأكملت دراستها في المدارس الحكومية.

شاركت رحمة عام 2018 في دورة متخصصة في تشكيل وعمل لوحات الفسيفساء بنادي المستقبل للإعاقة الحركية، لمدة 13 يوما، مما شكل لديها فرصة أمل جديدة وصفتها بأنها (أعادتني للحياة)، إذ ساهمت بتغيير حياتها وبدأت تعمل بشغف لهدف في حياتها تثبت حضورها من خلاله.

وخلال الدورة، وبمساعدة وبتشجيع مدربتها سماهر خميس، تمكنت رحمة من إنجاز ثلاث لوحات بدل لوحة واحدة، رغم أنها واجهت صعوبة في بداية الأمر في تكسير الفسيفساء ولصقها، لكنها حاولت وجربت مرات، ووجدت مساعدَة من المدربة.

اجتازت رحمة الدورة بتقدير امتياز، وأصبحت اليوم تتقن تشكيل لوحات الفسيفساء، إذ يستغرق عملها في اللوحة الواحدة من أسبوع إلى أسبوعين، وذلك يعود إلى حجم اللوحة والجهد الموجودين فيها.

ترسم رحمة لوحتها وتبدأ، بمساعدة عائلتها، بتكسير الفسيفساء، وتبدأ لوحدها بلصق الأحجار في المكان المخصص بدقة.

أراقبها وهي تمسك بأصابع قدميها أحجار الفسيفساء، وترصفها، فيتملكني الذهول.

وهي تعبر عن حالتها النفسية بتلك اللوحات التي تقول أنها تنقل غضبها أو حزنها أو فرحها.

رحمة، التي لم يحالفها الحظ بامتحان الثانوية العامة رغم أنها تقدمت أربع مرات. كانت قبل الانخراط في الدورة تجلس لفترات طويلة بالمنزل دون عمل أو هدف تسعى للقيام به.

حاولت البحث عن عمل وراجعت العديد من الأماكن، كانوا ينظرون إليها نظرة استهجان واستغراب وتحمل التقليل من شأنها، وردهم عليها (كيف ستعملين وأنت هكذا) ويرفضون وجودها بينهم.

وحصلت رحمة على دورة الكمبيوتر (ICDL) بتقدير امتياز، وتطمح إلى أن تصبح في المستقبل مدربة متخصصة بعمل الفسيفساء، وأن تصبح محترفة بعملها، وتعتمد على نفسها وتؤمن دخلاً مادياً خاصاً بها.

كانت رحمة قد ركّبت أطرافا صناعية في أميركا في عمر الـ 13 عام، بمساهمة من الأمير السعودي الراحل نايف بن عبدالعزيز عندما كان وزيرا للداخلية في الشقيقة السعودية.

لكن فرحتها لم تكتمل؛ وسُرق متاعها في رحلة للعمرة، ومن ضمنه اليدين الصناعيتين، بعد أن تعودت عليهما.

يروي والد رحمة لـ$ قصة ولادتها: «عندما جاءت إلى الدنيا فوجئت بأنها بلا يدين، لم أستطع أن أخبر والدتها، أبقيتها في المستشفى نحو أسبوع، وكنت ألتمس الحجج وأبحث عن أي ذريعة عندما تسأل والدتها، التي لم ترها، عنها».

وبعد أسبوع، وخوفا على أمها وصحتها لكثرة الهلع والجزع اللذين ألمّا بها، يقول أبوها: «اضطررت إلى إخبارها بالواقع، فما كان جوابها إلا قول «الحمدلله.. أجتنا رحمة من الله، وسنسميها رحمة».

تعلمت رحمة، بمساعدة والدتها منذ الصغر، أن تستخدم قدميها في اللعب وكيف تستخدم الألعاب وتتناول الطعام، حتى أصبحت الأعمال اليومية سهلة بالنسبة إليها، لا تشعر بصعوبة رغم أنها تستخدم قدمها اليسرى أكثر في العمل.

رحمة اليوم لا تتمنى تركيب أطراف صناعية جديدة يصعب استخدامها لأنها ترى أنها ستكون عبئا عليها.

تقول: «إذا كانت الأطراف ستساعدني بشكل فعال وجذري فلا بأس، أم أن تكونا مجرد ديكور فلا حاجة لي بهما».

والد رحمة كان يعمل في مهنة فني مواسرجي، وترك العمل بعد إصابته بـ«ديسك» في العمود الفقاري» بينما والدتها ربة منزل، ترتيبها الثالث بين إخوتها الثلاثة من شابين وشابتين.

تقول رحمة لنُظرائِها من أصحاب الهمم «لا تيأسوا وتُحبطوا عيشوا حياتكم واشتغلوا وطوروا هواياتكم وحققوا أحلامكم بإصرار وعزيمة».

الراي