الرئيسية / كتاب الموقع / النيابة وأنغام الجهل والفوضى والنكوص

النيابة وأنغام الجهل والفوضى والنكوص

النيابة وأنغام الجهل والفوضى والنكوص

ذات أمسية من صيف في ربوع الرعونة والهراء وغربان داحس تناطح ضباع الغبراء، في أنحاء تقتتل فيها القبيلة مع العشيرة على غنيمة البؤس والنحس وطيش السفاهة والغباء. ذاك المساء هللت أرجاء المدينة بإنتصار الهزيمة، وأقبلت سحب البسوس تنشر العبوس والسقم ونذر السأم والقنوط، أعلنت يومها طيور العتمة والشؤم فرِحةً أن النيابة غدت أبدية بأيدي الأمية وجحفلة القمار بالوطن والإنسان. كاد وقع النتيجة أن يهز أركان فؤاده ويطيح ببنيان ذاته مثلما زلزال أخشع الصم وهدم حصن العُرى ونفح في مساماتها الهلاك والعطب، كأنما رأى السواد يسبح في شواطئ الليل وتتشح الطرقات ثوب الحداد، أفزعه حينئذ أمر تلك العقول التي تأتي بالخراب لعقر دارها وتعزف ألحان انتحارها، أنفس تذبح الأمل وتشق الجيب وتغتصب الدم في عروق الكرامة ومستقبل أجيالها. سأل نفسه خجلاً لما هكذا تستقيل الرجولة من واجب الشرف وتتوارى الفروسية في غياهب الذل، لما ترتضي بالهوان وجوه تفترشها اللحى والشوارب وملامح الفحولة العقيمة، لما ترتهن العباءة والعمامة والشهادة واللقب وسائر أطياف الزيف للدجل والإفك والهتر.

توالت أسئلة الحيرة تنقر دماغه مثلما حثيث الكر يستبق المنايا، تلاحقت سحب الإستعلام والإستفسار لحجب شمس يقينه، ثم نشرت إشارة الإستفهام وأختها للتعجب بقاصل أسنانها ثنايا الثقة وخلايا الحجة في أعماقة، أثارت رياح الشك وزوابع الريبة في ذاته، لما كل هذا الإستهتار والتفريط وعنتريات لا تقوى على ذبابة، لما يسود في فكرنا ما زال منطق الطبلة والربابة، نمجد الوثن ونسجد للصنم وعلى امتداد سواح الوطن والزمن ما زلنا نعانق الهزيمة تلو الهزيمة بروح جاهلية وأفكار من قمامة.

عقد العزم أن يخوض الجنون بنفسه ويتصدى للجهالة، حسب أن العلم زاده والخلق سلاحه وأن الحق لا بد ينزع أثواب الحداد ويهزم أسوار الحمق الصماء، وبسؤدد وأمانة خاض معترك الشرف وكعب العز والنزاهة، وعبثاً جاهد ونازع نوازع الدنس والنجاسة إذ أحاط بعنقة حسد اللح وبغضاء القربى، شد على معصمه سيف السلطان وسبحة الدرويش، ورويداً أنفضت من حوله مدارج الصبا والمعروف ودعاة الحرية وأصحاب القلم الأعوج والفكر البائس وأدعياء التنوير. أنتصرت الهزيمة ثانيةً بسيف غربان داحس وضباع الغبراء وصدقت نبؤة البسوس أذ ها هي تتصارع اليوم تحت القبة على أنغام الجهل والفوضى والنكوص.

د. عبدالله الزعبي