الدكتور عبد الله الزعبي يكتب عن آخر رجالات العمر

آخر رجالات العمر
زهاء ربع قرن قضى من عمر يتهاوى بين الليل والنهار، يقبض على متاهة الدرب ويتسابق مع الريح، يجري مثلما البرق هرباً من الغمام. ذات عصر من صيف أرهقني تعباً وحزناً، في رحلة نهاية الأسبوع الشاقة بين مؤتة وأحضان الولدين، من سهول إبن الوليد إلى حافة واديه؛ إذ تشم أريج البطولة وتصيخ السمع إلى صهيل الخيول وصليل السيوف، تتعطر معهما بدفء الأمومة عندما تعزف الحان الشوق واللهفة، تغفو معهما في ضلوع الأبوة التي تضطرم ناراً تخشى أن تبوح بها. رحلة تختصر المسافة والتاريخ وتطوي الدهر في كتاب الذكرى، تحبسه في أعماق الخاطر وقعر الأيام. ذاك العصر عرجت للتحية على بيت النسب طيب الأعراق في عمان، بيت تغرق في بحر أخلاقه وتعوم، تستحم في أنهر الجود العميم فيه. بعد ومضة راحة وارتياح ورشفة من القهوة والود والمحبة، شدني الشوق إلى صوت أمي عبر الهاتف فكانت أختي، ألقيت التحية فألقت على قلبي خبراً انتزعه من خفقاته وسلبه نبضاته، اقتلع من احشائي تلك البسمة التي طبعها منذ كان لي من العمر عشر سنين، أستاذي الوسيم دمث الخُلق حَسن الخَلق جميل الطلة، في هيبته مكث طيف الأنبياء، بسمته سكنت فؤادي ومعها سكنت مدرسة أبو تمام، الإبتدائية والإعدادية، صفوفها، ساحاتها، طلابها، أشقياءها وعباقرتها، أشعة النور في سماءها، ومضة الأمل في أصداءها، أساتذتها وأجلاءها، كلهم جميعاً، تعجز الذاكرة وتزدحم بالأسماء والوجوه، بالافضال وكل كلمة وحرف، كل توبيخة وربتة على كتف وعلامة.
ذاك العصر الكئيب بكيت أستاذي وقدوتي الفاضل عيسى السقار كما لم أبكي أحد من قبل ومن بعد، فاضت الدموع شلالاً لم أستطع كبحه وترويضه، أحتبس صوتي وتوالت الشهقة تلو الغصة، خنقتني اللوعة. داهمني الحزن ذاك العصر وخيمت مزن سوداء في سمائي، ولأول مرة أدركت معنى الغياب والموت، معنى الفراق والرحيل، حسبت العمالقة لا يفنون، وددت لو أحتفظت بتلك البسمة الوضاءة وذاك الطيف الذي عزف موسيقى العلم وأنشد قصائد الحكمة والأدب في أبي تمام.
اليوم يرحل فارس آخر من صناديد العلم والمعرفة وأشاوس التربية القويمة، آخر رجالات العمر، ترحل معه الحكمة والكلمة، تخبو تلك النبرة في صوته التي كانت تطرب لها أوصلانا وتنتشي عقولنا، اليوم نشهد نهاية رجل شجاع مثلما عيسى السقار وعبد المجيد سمارة، اليوم يمضي فاضلنا الشرع الخالد، بعد الأفاضل محمد ابو صباح وأبو غازي وجميل بيضون ومحمد البلاسمة وابو زهدي الأدهم وعبد الكريم الخطيب ومحمود البركات الدرايسة والشيخ محمد اسماعيل، وكل من أثروا عقولنا وهذبوا أرواحنا وصقلوا مواهبنا. ندعوا الله لهم بالرحمة والجنة، ونبتهل للمولى عز وجل أن يديم الصحة والعافية على كل أولئك الأساتذة الأحياء الأحباء.
رحمك الله أستاذي الفاضل خالد الشرع وأسكنك فسيح جنانه في الفردوس الأعلى مع الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفقياً، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
د. عبدالله الزعبي.