الرئيسية / اخبار / الدكتور عبدالله الزعبي يكتب.. الصهيونية الأمريكية وزمام المبادرة في صفقة القرن

الدكتور عبدالله الزعبي يكتب.. الصهيونية الأمريكية وزمام المبادرة في صفقة القرن

الصهيونية الأمريكية وزمام المبادرة في صفقة القرن
تشكل صفقة القرن تحولاً استرتيجياً هاماً في السياسة الأمريكية إتجاه القضية الفلسطينية إذ تنتقل من مرحلة الحياد المزيف إلى الإنحياز التام والمكشوف والمباشر إلى جانب الصهيونية العالمية التي تعتبر أرض العم سام حاضنة رئيسية لها، إذ بلغ عدد اليهود فيها خمسة مليون و700 ألف، أي ما يعادل 40% من مجموعهم في العالم. كما تحمل الصفقة في طياتها إعلاناً واضحاً للعالم عن نفاذ صبر السياسة الأميريكية وتأزمها وإضطرارها إلى التخلي عن سياسات التقية والمواربة التي اتبعتها على مدار عقود عبر الدعوة إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان وقيادة العالم الحر من خلال سلسلة طويلة من المنظمات المدنية والهيئات الدولية ومراكز الأبحاث التي أغدقت عليها الأموال الطائلة في سبيل تحقيق أهدافها الإستعمارية وهيمنتها الرأسمالية الإمبريالية وإختراقها لشعوب العالم. تأتي صفقة القرن اليوم بعد أن أحكمت الصهيونية قبضتها على كافة مفاصل الحكم في امريكيا إذ إزداد حالياً عدد أعضاء مجلس النواب إلى 30 من أصل 435، وليصل عددهم منذ إنتخاب أول يهودي هو لويس تشارلز ليفين عام 1845 إلى 88 عضواً، أما مجلس الشيوخ فقد وصل عدد اليهود فيه إلى 11 سناتوراً من أصل 100، ليبلغ مجموعهم منذ إنتخاب ديفيد ليفي، أول سناتور يهودي عام 1845، إلى41 سيناتوراً، كما وصل عدد الوزراء اليهود في الحكومات الأمريكية إلى 15 وزيراً منهم 7 هيمنوا على وزارة المالية ومنهم الوزير الحالي، وإثنين منهم كانوا وزراء الخارجية، بينما تسلم 27 يهودياً منصب حاكم ولاية، منهم إثنين حاليين لولاية كولورادو وولاية إلينويز، وخاض 5 مرشحون الإنتخابات الرئاسية آخرهم كان بيرني ساندرز عام 2016، بينما بلغ عدد القضاة اليهود في المحكمة العليا 8 منهم 3 أعضاء يخدمون حالياً.
لقد شكل اليهود جزءً أساسياً من النسيج الإجتماعي والسياسي الأمريكي، ولم يعانوا من الإضطهاد كما في أوروبا، وتمتعوا بالحرية والمساواة منذ أن وطأت قدم اليهودي الإسباني الذي كان يخفي ديانته لويس دي كاراباخال لأول مرة أرض تكساس عام 1570، ومن بعده الهنجاري يواكيم جانز الذي وصل إليزابيث سيتي للتنقيب عن النحاس عام 1584، ومن ثم إلياس ليغارد الذي قدم إلى جيمس سيتي من فرنسا عام 1621 لتعليم الناس كيفية صناعة النبيذ، وهكذا حتى كانت أول هجرة جماعية تكونت من ثلاثة وعشرين يهودياً قدموا من البرازيل عام 1654 واستقروا في مدينة نيويورك، وبحلول حرب الاستقلال عام 1776، كان هنالك حوالي 2000 يهودي، معظمهم من السفارديم الذين هاجروا من إسبانيا والبرتغال واستقروا في 13 مستعمرة على الساحل الشرقي، وساهموا مباشرة في الثورة سواء بالقتال ضد الإنجليز أو بتمويلها. استمرت الهجرة اليهودية من أوروبا إلى امريكيا، خصوصاً الأشكناز من المانيا حتى بلغ عددهم حوالي 150000 عشية الحرب الأهلية في الفترة 1861-1865، وشاركوا فيها على جانبيها، بحاولي 7000 مقاتل منهم تسعة جنرالات أبرزهم إدوارد سولومون وفريدريك كنيكر على جانب الإتحاد، وحوالي 3000 على جانب الكونفدرالية، ومنهم العقيد أبراهام مايرز مدير عام الجيش ويهوذا بنيامين أول وزير خارجية. وبعد الحرب أسس عدد من اليهود الألمان شركات مصرفية استثمارية أصبحت فيما بعد الدعامة الأساسية للقطاع المالي والمصرفي، أهمها بنك كوهن لوب عام 1867، وبنك جولدمان ساكس عام 1869، وبنك باش وشركاه عام 1879 وبنك سلومون براذرز عام 1910. كما لعب المصرفي الألماني جاكوب شيف (1847-1920) دوراً رئيسياً في قيادة الجالية اليهودية وساعد في تمويل بناء وتوسيع خطوط السكك الحديدية ودعم جهود هجرة اليهود من أوروبا الشرقية الذين بلغ عددهم 2.8 مليون في نهاية الحرب العالمية الأولى، وانتشروا في أنحاء البلاد، وتمركزوا في المدن الكبرى من مثل نيويورك ولوس انجلوس وسان فرانسيسكو وشيكاجو وبوسطن وواشنطن وفيلادلفيا، وأنهوا هيمنة البيض في مجال القانون والمحاماة، واخترقوا سوق العقار وأسسوا هوليوود وبنوا استديوهات كولومبيا وباراماونت ووارنر برذرز ويونيفرسال وجولدين مييار وسيطروا على ولت ديزني، وأصبح معظم الممثلين والمنتجين والمخرجين منهم حتى بلغت إيراداتها عام 2018 عند 41.7 مليار دولار، كما سيطروا على الإعلام بجميع مكوناته من مثل قنوات أن بي سي، سي بس أس، أي بي سي، سي ان ان، وفوكس نيوز، وكذلك صحف نيويورك تايمز وول ستريت جيرنال، ويو أس نيوز وأخترع الهنغاري جوزيف بوليتزر جائزته الصحفية المشهورة، كما أسسوا قنوات الشوتايم ونيتفلكس والتيد توكس وديسكافري جنال، وأسسوا شركات النفط من مثل آموكو وأو إكس واي، وسيطروا على صناعة الألبسة من مثل كالفن كلاين وجاب وأخترع ليفاي ستراوس الجينز وأنشئوا توي آر أس لألعاب الأطفال وستاربكس وكرافت للأغذية ودنكن دونتس، كما أسسوا شركة ماكس فاكتور للتجميل وإليوت يونج المحاسبية وبورش للسيارات وأمتلكوا الأندية الرياضية من مثل اليانكيز وبوسطن ردسوكس للبيسبول، ومن بين 30 فريقاً في دوري كرة السلة، يملك اليهود 14 نادياً رئيسياً. كذلك ساهم اليهود في التقدم العلمي والتكنولوجي في امريكيا حيث 37% من الحائزين على جائزة نوبل من اليهود، وكذلك 30% من طلاب جامعات رابطة الآي في يهوداً، كما ساهموا في بناء السيليكون فالي، وفي عالم الأعمال احتلوا 7.7% من مقاعد مجالس الإدارة في مختلف الشركات مع أنهم لا يشكلون سوى %2.5 من السكان، كما سيطروا على قطاع تكنولوجيا الإتصالات والمعلومات والتواصل الإجتماعي فأخترعوا فيسبوك وواتساب وجوجل وإنتل ويوتيوب وياهو وأوراكل وسيسكو وفايبر وإي بي وبي بال واندرويد وبولورويد وبلومبيرج ولينكد إن وغيرها الكثير، وهذا يفسر احتلال 30 يهودياً قائمة المئة الأكثر ثراءً في امركيا.
أما النواحي التنظيمية، فقد أسس اليهود أول دار للأيتام في تشارلستون بولاية ساوث كارولينا عام 1801، والمدرسة اليهودية الأولى في نيويورك عام 1806، وبناي بريث، أول منظمة يهودية علمانية وطنية عام 1843، والمجلس القومي للمرأة اليهودية في شيكاغو عام 1893 من أجل المساهمة في أمركة المهاجرين، ورابطة مكافحة التشهير عام 1913، وقدم اليهود الإصلاحيين الأثرياء الدعم للوافدين الجدد الأرثوذكس الفقراء في الفترة 1880-1930، مالياً وفي عملية الأمركة من أجل سد الفجوة الثقافية. كما ساهمت موجة يهود أوروبا الشرقية الليبرالية واليسارية من ذوي الخبرة في الحركات الاشتراكية والأناركية في إرتقاء العديد من اليهود مناصب قيادية في الحركة العمالية الأمريكية في أوائل القرن العشرين وساعدوا في تأسيس نقابات تجارة الإبرة (صناعة الملابس) التي لعبت دوراً رئيسياً في سياسات الحزب الديمقراطي والذي أصبح جزءً اساسياً من الثقافة اليهودية السياسية، فقد لعب القائد العمالي اليهودي اللتواني سيدني هيلمان (1887-1946) ورئيس عمال صناعة الملابس دوراً هاماً في تأسيس مؤتمر المنظمات الصناعية لدعم الديمقراطي فرانكلين روزفلت الذي أصبح رئيساً لأمريكيا في الفترة (1933-1945). وبهذا لعبت المنظمات اليسارية دوراً مهماً في حياة المجتمع اليهودي وكانوا يشاركون في كل حركة اجتماعية مهمة والترويج لقضايا من مثل حقوق العمال والحقوق المدنية وحقوق المرأة وحرية الدين وحركات السلام والعديد من القضايا التقدمية الأخرى. لقد بلغ اليهود درجة عظيمة من التنظيم في كل حي ومدينة وولاية وجامعة وقطاع وتجاوزت اعداد منظماتهم الآلاف أشهرها لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (الآيباك) التي تأسست عام 1963 واللوبي الإسرائيلي الذي يتكون من مجموعات منظمة وفرق بحث علمي ومجموعات المراقبة الإعلامية وشبكة من لجان العمل السياسي المحلية.
تمثل العريضة التي قدمها المبشر والصهيوني المسيحي وليام يوجين بلاكستون (1841-1935) للرئيس الأمريكي بنيامين هاريسون عام 1891 أول عمل لصالح الصهيونية دعى فيها إلى إعادة الأراضي المقدسة إلى الشعب اليهودي ووقع عليها مجموعة من الشخصيات الأمريكية البارزة. ومع ذلك، فضلت امريكيا الحياد في الصراع العربي-الصهيوني حتى نكسة 1967 التي وحدت الجاليات اليهودية لأول مرة على دعم إسرائيل بكافة السبل، ومذئذ حاولت أمريكيا التوسط لإنهاء الصراع عبر سلسلة من المبادرات والمشاريع. اليوم يقوم ثلاث صهاينة بأخذ التفويض وزمام المبادرة من الإدارة الأمريكية لإعداد وترويج وفرض ما يسمى صفقة القرن هم جاريد كوشنر، صهر ومستشار الرئيس ترامب، وجيسون جرينبلات، المبعوث الخاص للرئيس ترامب إلى الشرق الأوسط، وديفيد فريدمان، السفير الأمريكي في تل أبيب، ما يعتبر أول خطوة في تحول السياسة الأمريكية إتجاه الصراع العربي-الصهيوني وتسلم الصهيونية الأمريكية هذا الملف مباشرة لإعتبارات سياسية وإقتصادية داخلية ولإقتناص فرصة تاريخية يعاني فيها العرب من الضعف والتشتت والتشرذم. إن إهمال العرب لقوة اليهود وتجذرهم التاريخي في المجتمع الأمريكي وإختراقهم للسياسة والحكم فيها يعتبر من أخطر الأخطاء الإستراتيجية التي ارتكبت على مدار اكثر من 120 سنة من الصراع، وذاك ينبيء بتداعيات ستفرض نفسها على مجمل الوضع العام في العالم العربي، ويعكس جانباً واحداً من إهمال العرب للعلم وغفلتهم عن سبر تاريخ قوم لا يؤمن مكرهم أبداً.
د. عبدالله الزعبي.