الرئيسية / كتاب الموقع / بقايا تشرين للدكتور عبدالله الزعبي

بقايا تشرين للدكتور عبدالله الزعبي

بقايا تشرين

د. عبدالله الزعبي

ما بين تشرين وتشرين وإرتحال صفحات العمر، يأتي خريف آخر مع نبض السكينة والهدوء والطيور المهاجرة. ما بين نسمات الماضي البعيد إذ تداعب رؤى الحاضر في فصل العشق، تمحصها قليلاً قليلاً وتستعيد الخاطر، تأبى أن تغادر ذاكرة الطفولة والصبا وظل الرحيل، خريف يحمل على أكفه المنى العتيقة والغيوم الزرقاء المتدلية من عنق السماء. خريف يسند مقاعد الأحزان المنشغلة بالرشد والكهولة وعيون الحسرة. جميلة لوحة الخريف تلك بأوراق الطيف الصفراء فيها وهي تتهدل بخيلاء من مآقي الشجر، تطوي شمسه الخجولة عند المغيب رتابة نهار الصيف العجوز، تعس ليالي السمر ووجه القمر وتطلبها حثيثاً. تلك لوحة عندما تترتحل ما بين تشرين وتشرين وبارقة العين واجنحة الريح والصمت الحزين، تشهد المطر وبرأة الطفولة تزج جسدها في مربد الليل، تبحث عن دفء الألفة وحنين المحبة، كانت الأمنيات عندئذ تحلق في فضاء الود وتهبط على قبب المساجد، ينساب رحيقها مع صدى المآذن والدعاء، تراها تهلل للزيتون وموسم الفرحة والقطاف، وبخشوع تنصت لإلحان التسامح والجماعة وأنات البوح واللقاء صباح مساء. ذات تشرين في بطن الزمان كان هنالك يوماً نصر وزفة، نساء يطرزن أثواب الذاكرة ويتحلقن دلال القهوة، وكان الليل يغني للفتية حكايا الحب ويسجي السحر.

ما بين تشرين وتشرين وتقلب صفحات العمر، يجس الأمل خافق الألم عند كل تشرين، عندما كان الآباء في صدر الحياة وشموخ الشباب على زهو القمم، وبريق الزيت على خبز الأمهات يلثم شفاه الجوع والتعب، يسد رمق الشوق إلى الأرض والعشب والندى. لون تشرين ما زال يقبض على حفنة الفرح في الأفئدة، تزينه مثلما ياقوتة في جيد صبية حسناء، ما زال يمسك بأهداب المودة وستائر الألفة إذ تقطن البيت وأزقة الحارة وربوع القرية الطينية. كانت البيادر في تشرين غير بقايا الأمكنة، بينما الحقول مرتعاً للهو حذف الحقد والكآبة من معجم الإحساس، وأحلام كانت بريئة في طياتها آمال عذبة رقيقة، تعاتب الثواني وتدفع وجع الدموع والحرقة في الحدقات. ذات تشرين كانت الأرض تعشق المطر والغصن يهوى الشجر، كان يومها البدر يسرد قصص العشق على ضوء الخجـل. تشرين اليوم ما عاد تشرين، هرب من لوعة الأسى وارتحل، والخريف طوى احلامه ولملم جراحه، عاد إلى الماضي الوردي، إلى الطفولة الأبدية، عاد ثانيةً إلى الذكرى والأمل.