الرئيسية / كتاب الموقع / اقتلهم بهدوء.. د. عبدالله الزعبي.

اقتلهم بهدوء.. د. عبدالله الزعبي.

جملة واحدة في فيلم “اقتلهم بهدوء” ربما تلخص ما يجري في عالمنا المجنون. الفيلم يحمل طابع الكوميديا السوداء، مقتبس من رواية “كوجان للتجارة” لجورج هيغنز (1974) وأنتج عام 2012، تدور أحداثه حول ثلاثة محتالين صغار يسرقون عملية لعب قمار غير قانونية تحميها العصابات، والتي تقوم بإرسال القاتل المحترف جاكي (براد بيت) للتعامل مع الجناة. في مشهد نهاية الفيلم، يلتقي جاكي مع ممثل العصابات لتحصيل أجره في بار ليلة الانتخابات الرئاسية، يتجادل الإثنان حول الأجر في أثناء إلقاء باراك أوباما خطاب الفوز في الانتخابات على شاشة التلفاز، حيث يحاول رجل العصابات دفع مبلغ قليل ويصر جاكي على المبلغ الكامل، وفي إشارة إلى أوباما الذي يظهر على الشاشة، يعلن جاكي بغضب: “يريد هذا أن يخبرني أننا نعيش في مجتمع؟ لا تجعلني أضحك، نحن نعيش في أمريكا، وفي أمريكا، أنت وحدك. أمريكا ليست بلداً، إنها مجرد تجارة”: “America is not a country; it’s just a business”.
يشير الكاتب والصحفي الأمريكي توماس فريدمان في مقابلة له في لندن مع المنتدى العالمي للنقاش Intellegence2 بتاريخ 8.8.2019، بأن القرن العشرين شهد نهاية حكم الإمبراطوريات الذي ساد العالم منذ فجر التاريخ الإنساني حيث هيمن الآشوريون والبابليون، مروراً بالعشرات منها وحتى أفول الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الهنغارية-النمساوية في نهاية الحرب العالمية الأولى، ثم الأمبراطورية البريطانية والأمبراطورية الفرنسية في نهاية الحرب العالمية الثانية. عندها وجد العالم نفسه فجأة أمام ولادة الدولة القطرية التي مهدت لها معاهدة وتسلافيا عام 1648 وأرست بموجبها مبدأ سيادة الدول الحديثة في أوروبا والحفاظ على قوانينها وحدودها ومصالحها. تمتعت الدولة القطرية بحالة من الإستقرار والإزدهار في أجواء الحرب الباردة حيث تنافس قطباها، الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي، إلى إستقطابها، كلٌ إلى معسكره، بمنحها المساعدات والأموال والأسلحة والخبرات. أدى إنهيار الإتحاد السوفييتي إلى تأجيج الشعور القومي مرة أخرى وارتفع عدد الدول المستقلة التي أنضمت إلى الأمم المتحدة حتى وصل عددها إلى ما يزيد على 200 دولة، بينما انضمت معظم دول أوروبا الشرقية المستقلة حديثاً عن الإتحاد السوفييتي والإتحاد اليوغسلافي إلى الإتحاد الأوروبي.
بدأت الدولة القطرية تشهد تراجعاً ملحوظاً في أهميتها ودورها في بداية القرن في ظل عالم ذي قطب أوحد وعولمة مستوحشة ومعاهدات تجارة دولية تسيطر عليها الشركات العابرة للدول التي تسعى إلى فتح الأسواق وتحويل الإنسان إلى أداة وسلعة. كل ذلك أدى إلى تراجع دور الدولة القطرية في حماية نفسها ومواطنيها، ورسخت تحت وطأة المنظمات الدولية التي أملت عليها أفكار الليبرالية الجديدة وشروط لعبة الرأسمالية العالمية المجحفة، فلجأت إلى إعادة هيكلة نظمها البيرقراطية وشرعت في الخصخصة وتوارت منظومة الرفاه وتدهور التعليم وهوت الرعاية الصحية وتقهقرت البنية التحتية وارتفعت البطالة إلى حدود مفزعة في جميع أنحاء العالم. رافق ذلك إستقطاباً سياسياً عالمياً شديداً وسقطت دول عديدة في لعبة التسلح؛ مما أدى إلى زيارة الإنفاق العسكري الذي نتج عنه تفاقم أزماتها الإقتصادية وتفكك نسيجها الإجتماعي، وأصبحت الدولة تدار بعقلية رجال الأعمال والصفقات والسمسرة. تزامن ذلك مع ثورة الإتصالات والمعلومات وإنتشار وسائل التواصل الإجتماعي التي وجدت نفسها خارج يد السيطرة والضبط فكشفت المستور وعرت الفساد، وتضاءل إيمان المواطن بمؤسسات الدولة ونضب الإنتماء وحارت الهوية.
لم تنج الولايات المتحدة من كل ذلك، ولعلها سبب ومصدر هذا الجنون، فالمؤسسات السياسية الأمريكية تخضع كلها لسيطرة رأس المال الذي يملكه عدد محدود جداً من مواطنيها وعائلتها، فلا يستطيع سياسي واحد، بما فيهم أعضاء الحزبين الرئيسين والرئيس نفسه، من الحصول على موقع أو مقعد في الإدارة أو الكونجرس إلا بدعم من المؤسسة المالية والصناعية. تمخض ذلك عن تربع دونالد ترمب على عرش الرئاسة الأمريكية، ما يجسد مأزق النخبة الحاكمة، خصوصاً الجمهوريين الذين يمثلوا مصالح شركات النفط والأدوية والسلاح والمال والتكنولوجيا وغيرها، في الحصول على الأصوات التي توصلهم للحكم، ذلك المأزق الذي بدأ ينتشر في معظم أنحاء العالم، ديمقراطياً كان أم سلطوياً، فالسياسيون يخدمون رأس المال ولكنهم يحتاجون لأصوات الشعب أو مباركته، وذلك بالذات هو مأزق الرأسمالية الحديثة.
تعاني معظم الدول العربية من هذا المأزق بشكل أو آخر، فقيرة كانت أم نفطية، فالنخبة السياسية تسعى لخدمة مصالح رأس المال الوطني والعالمي، بل هي جزءً منه، والشعوب اصبحت مجرد رعايا وسكان ووقود للشرعية التائهة، ليس عليها سوى التصويت في الإنتخابات؛ إن وجدت، ثم الهتاف للنتائج والمباركة للنخبة، ولا ضير إن كان المال هو السبيل الوحيد للفوز، فذلك ما تباركه السلطة وتحبذه. لذلك، ستجد الشعوب العربية نفسها قريباً أمام وضع لا تحسد عليه، يضطرها إلى إستعادة أموال القمار غير القانونية التي تحميها العصابات ذاتها، ستجد نفسها أمام جاكي يقتلهم بهدوء، ويردد: “البلد ليس وطناً، إنه مجرد تجارة”.

تعليق واحد

  1. دكتور الله يرضى عليك اغلب قراء الموقع نص كعبه طالع من المطراش وحضرتك بتتكلم عن سقوط امبراطوريات و Globalization.